فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اركعوا واسجدوا} أي في صلواتِكم أمرَهم بهما لمَا أنَّهم ما كانُوا يفعلونَهما أوَّلَ الإسلامِ أو صلُّوا عبر عن الصَّلاةِ بهما لأنَّهما أعظمُ أركانِها أو اخضعُوا لله تعالى وخِرُّوا له سُجدَّا {وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ} بسائر ما تعبَّدكم به {وافعلوا الخير} وتحرَّوا ما هو خيرٌ وأصلحُ في كلِّ ما تأتون وما تذرونَ كنوافلِ الطَّاعاتِ وصلةِ الأرحامِ ومكارمِ الأخلاقِ {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي افعلُوا هذه كلَّها وأنتُم راجُون بها الفلاحَ غيرَ متيقنينَ له واثقينَ بأعمالكم. والآية آيةُ سجدةٍ عند الشَّافعيِّ رحمه الله لظاهر ما فيها من الأمر بالسُّجود ولقوله عليه الصَّلاةُ والسلام: «فُضِّلتْ سورةُ الحجِّ بسجدتينِ مَن لم يسجدْهُما فلا يقرأها».
{وجاهدوا في الله} أي لله تعالى ولأجلِه أعداءَ دينِه الظاهرة كأهلِ الزَّيغِ والباطنةِ كالهَوَى والنَّفسِ وعنه عليه الصَّلاة والسَّلام أنَّه رجعَ من غزوةِ تبوكَ فقال: «رجعنا من الجهادِ الأصغرِ إلى الجهادِ الأكبر» {حَقَّ جهاده} أي جهادًا فيه حقًّا خالصًا لوجهه فعكسَ وأضيف الحقُّ إلى الجهادِ مبالغةً كقولِك: هو حقٌّ عالمٌ وأُضيف الجهادُ إلى الضَّمير اتِّساعًا أو لأنَّه مختصٌّ به تعالى من حيث إنّه مفعولٌ لوجهِه ومن أجلِه {هُوَ اجتباكم} أي هو اختاركُم لدينِه ونصرتِه لا غيرُه وفيه تنبيهٌ على ما يقتضي الجهادَ ويدعُو إليه {وما جَعَلَ عَلَيْكمْ في الدين مِنْ حَرَجٍ} أي ضيقٍ بتكليف ما يشقُّ عليكم إقامتُه إشارة إلى أنَّه لا مانعَ لهم عنْهُ ولا عذرَ لهم في تركِه أو إلى الرُّخصةِ في إغفالِ بعضِ ما أمرَهم به حيث يشقُّ عليهم لقوله عليه الصَّلاةُ والسلام: «إذا أمرتُكم بشيءٍ فأتُوا منه ما استطعتم» وقيل: ذلك بأنْ جعلَ لهم من كلِّ ذنبٍ مخرجًا بأنْ رخَّص لهم في المضايقِ وفتحَ لهم بابَ التَّوبةِ وشرَع لهم الكفَّاراتِ في حقوقِه والأروشَ والدِّياتِ في حقوقِ العبادِ {مّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم} نُصب على المصدرِ بفعلٍ دلَّ عليه مضمونُ ما قبلَه بحذفِ المضافِ أي وسع عليكم دينَكم توسعةَ ملَّةِ أبيكم أو على الإغراءِ أو على الاختصاصِ وإنَّما جعله أباهم لأنَّه أبوُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو كالأبِ لأمَّتِه من حيث إنّه سببٌ لحياتِهم الأبديَّةِ ووجودِهم على الوجه المعتدِّ به في الآخرةِ أو لأنَّ أكثرَ العربِ كانُوا من ذُرِّيتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فغُلِّبُوا على غيرِهم {هُوَ سماكم المسلمين مِن قَبْلُ} في الكتبِ المُتقدِّمةِ.
{وفي هذا} أي في القرآن والضَّميرُ لله تعالى ويُؤيِّده أنَّه قرئ {الله سمَاكُم} أو لإبراهيم وتسميتُهم بالمسلمينَ في القرآن وإنْ لم تكُنْ منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كانت بسببِ تسميته من قبلُ في قوله: {وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} وقيل: وفي هذا تقديرُه: وفي هذا بيانُ تسميتِه إيَّاكم المسلمينَ {لِيَكُونَ الرسول} يومَ القيامةِ متعلق بـ سمَاكُم {شَهِيدًا عَلَيْكُمْ} بأنَّه بلَّغكُم فيدلُّ على قبولِ شهادتِه لنفسِه اعتمادًا على عصمتِه أو بطاعة مَن أطاعَ وعصيانِ مَن عصى {وَتَكُونُواْ شهداء عَلَى الناس} بتبليغِ الرُّسلِ إليهم {أَءشْفَقْتُمْ أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ} أي فتقرَّبُوا إلى الله بأنواعِ الطَّاعاتِ. وتخصيصُهما بالذِّكرِ لإنافتِهما وفضلِهما. {واعتصموا بالله} أي ثقُوا به في مجامعِ أمورِكم ولا تطلبُوا الإعانةَ والنُّصرةَ إلاَّ منْه {هُوَ مولاكم} ناصرُكم ومتولِّي أمورِكم {فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير} هو إذْ لا مثلَ له في الوَلاَيةِ والنُّصرةِ بل لا ولِيَّ ولا نصيرَ في الحقيقةِ سواهُ عز وجل. اهـ.

.قال الألوسي:

{يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اركعوا واسجدوا} أي صلوا وعبر عن الصلاة بهما لأنهما أعظم أركانها وأفضلها والمراد أن مجموعهما كذلك وهو لا ينافي تفضيل أحدهما على الآخر ولا تفضيل القيام أو السجود على كل واحد واحد من الأركان، وقيل: المعنى اخضعوا لله تعالى وخروا له سجدًّا، وقيل: المراد الأمر بالركوع والسجود بمعناهما الشرعي في الصلاة فإنهم كانوا في أول إسلامهم يركعون في صلاتهم بلا سجود تارة ويسجدون بلا ركوع أخرى فأمروا بفعل الأمرين جميعًا فيها حكاه في البحر ولم نره في أثر يعتمد عليه، وتوقف فيه صاحب المواهب وذكره الفراء بلا سند {وَقال رَبُّكُمْ} بسائر ما تعبدكم سبحانه به كما يؤذن به ترك المتعلق، وقيل: المراد أمرهم بأداء الفرائض.
وقوله تعالى: {وافعلوا الخير} تعميم بعد تخصيص أو مخصوص بالنوافل وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه أمر بصلة الأرحام ومكارم الأخلاق {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} في موضع الحال من ضمير المخاطبين أي افعلوا كل ذلك وأنتم راجون به الفلاح غير متيقنين به واثقين بأعمالكم، والآية آية سجدة عند الشافعي وأحمد وابن المبارك وإسحق رضي الله تعالى عنهم لظاهر ما فيها من الأمر بالسجود ولما تقدم عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال قلت: يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القران بسجدتين؟ قال: «نعم فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما» وبذلك قال على كرم الله تعالى وجهه وعمر وابنه عبد الله وعثمان وأبو الدرداء وأبو موسى وابن عباس في إحدى الروايتين عنه رضي الله تعالى عنهم.
وذهب أبو حنيفة ومالك والحسن وابن المسيب وابن جبير وسفيان الثوري رضي الله تعالى عنهم إلى أنها ليست آية سجدة، قال ابن الهمام: لأنها مقرونة بالأمر بالركوع والمعهود في مثله من القرآن كونه أمرًا بما هو ركن للصلاة بالاستقراء نحو: {واسجدى واركعى} [آل عمران: 43] وإذا جاء الاحتمال سقط الاستدلال، وما روي من حديث عقبة قال الترمذي: إسناده ليس بالقوي وكذا قال أبو داود وغيره انتهى.
وانتصر الطيبي لإمامه الشافعي رضي الله تعالى عنه فقال: الركوع مجاز عن الصلاة لاختصاصه بها وأما السجود فلما لم يختص حمل على الحقيقة لعموم الفائدة ولأن العدول إلى المجاز من غير صارف أو نكتة غير جائز والمقارنة لا توجب ذلك، وتعقبه صاحب الكشف بأن للقائل أن يقول: المقارنة تحسن ذلك، وتوافق الأمرين في الفرضية أو الإيجاب على المذهبين من المقتضيات أيضًا، ثم رجع إلى الانتصار فقال: الحق إن السجود حيث ثبت ليس من مقتضى خصوص تلك الآية لأن دلالة الآية غير مقيدة بحال التلاوة بل إنما ذلك بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم أو قوله فلا مانع من كون الآية دالة على فرضية سجود الصلاة ومع ذلك تشرع السجدة عند تلاوتها لما ثبت من الرواية الصحيحة، وفيه أنه إن أراد أن ما ثبت دليل مستقل على مشروعيتها من غير مدخل للآية فذلك على ما فيه مما لم يقله الشافعي ولا غيره، وإن أراد أن الآية تدل على ذلك كما تدل على فرضية سجود الصلاة وما ثبت كاشف عن تلك الدلالة فذلك قول بخفاء تلك الدلالة والتزام أن الأمر بالسجود لمطلق الطلب الشامل لما كان على سبيل الإيجاب كما في طلب سجود الصلاة ولما كان على سبيل الندب كما في طلب سجود التلاوة فإنه سنة عند الشافعي رضي الله تعالى عنه ولعله يتعين عنده ذلك ولا محذور فيها بل لا معدل عنه إن صح الحديث لَكِن قد سمعت آنفًا ما قيل فيه، ولك أن تقول: إنه قد قوى بما أخرجه أبو داود وابن ماجه وابن مردويه والبيهقي عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل.
وفي سورة الحج سجدتان وبعمل كثير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم الظاهر في كونه عن سماع منه صلى الله عليه وسلم أو رؤية لفعله ذلك.
{وجاهدوا في الله} أي لله تعالى أو في سبيله سبحانه، والجهاد كما قال الراغب استفراغ الوسع في مدافعة العدو وهو ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر كالكفار. ومجاهدة الشيطان. ومجاهدة النفس وهي أكبر من مجاهدة العدو الظاهرة كما يشعر به ما أخرج البيهقي وغيره عن جابر قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم غزاة فقال: «قدمتم خير مقدم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر قيل وما الجهاد الأكبر؟ قيل وما الجهاد الأكبر؟ قال: مجاهدة العبد هواه» وفي إسناده ضعف مغتفر في مثله.
والمراد هنا عند الضحاك جهاد الكفار حتى يدخلوا في الإسلام، ويقتضي ذلك أن تكون الآية مدنية لأن الجهاد إنما أمر به بعد الهجرة.
وعند عبد الله بن المبارك جهاد الهوى والنفس، والأولى أن يكون المراد به ضروبه الثلاثة وليس ذلك من الجمع بين الحقيقة والمجاز في شيء، وإلى هذا يشير ما روى جماعة عن الحسن أنه قرأ الآية وقال: إن الرجل ليجاهد في الله تعالى وما ضرب بسيف، ويشمل ذلك جهاد المبتدعة والفسقة فإنهم أعداء أيضًا ويكون بزجرهم عن الابتداع والفسق {حَقَّ جهاده} أي جهادًا فيه حقًّا فقدم حقًّا وأضيف على حد جرد قطيفة وحذف حرف الجر وأضيف جهاد إلى ضميره تعالى على حد قوله:
ويوم شهدناه سليمًا وعامرًا

وفي الكشاف الإضافة تكون لأدنى ملابسة واختصاص فلما كان الجهاد مختصًا بالله تعالى من حيث أنه مفعول لوجهه سبحانه ومن أجله صحت إضافته إليه، وأيًّا ما كان فنصب {حَقّ} على المصدرية، وقال أبو البقاء: إنه نعت لمصدر محذوف أي جهادًا حق جهاهد، وفيه أنه معرفة فكيف يوصف به النكرة ولا أظن أن أحدًا يزعم أن الإضافة إذا كانت على الاتساع لا تفيد تعريفًا فلا يتعرف بها المضاف ولا المضاف إليه، والآية تدل على الأمر بالجهاد على أتم وجه بأن يكون خالصًا لله تعالى لا يخضى فيه لومة لائم وهي محكمة.
ومن قال كمجاهد، والكلبي: إنها منسوخة بقوله تعالى: {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16] فقد أراد بها أن يطاع سبحانه فلا يعصى أصلًا وفيه بحث لا يخفى، وأخرج ابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه قال: قال لي عمر رضي الله تعالى عنه {ألسنا كنا نقرأ وجاهدوا في الله حق جهاده في آخر الزمان كما جاهدتم في أوله}؟ قلت: بلى فمتى هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: إذا كانت بنو أمية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء، وأخرجه البيهقي في الدلائل عن المسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنه قال: قال عمر لعبد الرحمن بن عوف فذكره، ولا يخفى عليك حكم هذه القراءة، وقال النيسابوري: قال العلماء لو صحت هذه الرواية فلعل هذه الزيادة من تفسيره صلى الله عليه وسلم وليست من نفس القران وإلا لتواترت وهو كما ترى {الذين ءامَنُواْ اركعوا واسجدوا وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وافعلوا الخير لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وجاهدوا في الله حَقَّ جهاده هُوَ اجتباكم} أي هو جل شأنه اختاركم لا غيره سبحانه، والجملة مستأنفة لبيان علة الأمر بالجهاد فإن المختار إنما يختار من يقوم بخدمته ومن قربه العظيم يلزمه دفع أعدائه ومجاهدة نفسه بترك ما لا يرضاه ففيها تنبيه على المقتضى للجهاد، وفي قوله تعالى: {وما جَعَلَ عَلَيْكمْ في الدين} أي في جمع أموره ويدخل فيه الجهاد دخولًا أوليًّا {مِنْ حَرَجٍ} أي ضيق بتكليف ما يشتد القيام به عليكم إشارة إلى أنه لا مانع لهم عنه، والحاصل أنه تعالى أمرهم بالجهاد وبين أنه لا عذر لهم في تركه حيث وجد المقتضى وارتفع المانع.
ويجوز أن يكون هذا إشارة إلى الرخصة في ترك بعض ما أمرهم سبحانه به حيث شق عليهم لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» فانتفاء الحرج على هذا بعد ثبوته بالترخيص في الترك بمقتضى الشرع وعلى الأول انتفاء الحرج ابتداء، وقيل: عدم الحرج بأن جعل لهم من كل ذنب مخرجًا بأن رخص لهم في المضايق وفتح عليهم باب التوبة وشرع لهم الكفارات في حقوقه والأروش والديات في حقوق العباد، ولا يخفى أن تعميمه للتوبة ونحوها خلاف الظاهر وإن روى ذلك من طريق ابن شهاب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما:
وفي الحواشي الشهابية أن الظاهر أن حق جهاده تعالى لما كان متعسرًّا ذيله بهذا ليبين أن المراد ما هو بحسب قدرتهم لا ما يليق به جل وعلا من كل الوجوه.
وذكر الجلال السيوطي أن هذه الآية أصل قاعدة المشقة تجلب التيسير وهو أوفق بالوجه الثاني فيها.
{مّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم} نصب على المصدرية بفعل دل عليه ما قبله من نفي الحرج بعد حذف مضاف أي وسع دينكم توسعة ملة أبيكم أو على الاختصاص بتقدير أعني بالدين ونحوه وإليهما ذهب الزمخشري، وقال الحوفي وأبو البقاء: نصب على الإغراء بتقدير اتبعوا أو الزموا أو نحوه، وقال الفراء: نصب بنزع الخافض أي كملة أبيكم، والمراد بالملة إما يعم الأصول والفروع أو ما يخص الأصول فتأمل ولا تغفل، و{إبراهيم} منصوب بمقدر أيضًا أو مجرور بالفتح على أنه بدل أو عطف بيان، وجعله عليه السلام أباهم لأنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كالأب لأمته من حيث أنه سبب لحياتهم الأبدية ووجودهم على الوجه المعتد به في الآخرة أو لأن أكثر العرب كانوا من ذريته عليه السلام فغلبوا على جميع أهل ملته صلى الله عليه وسلم {هُوَ} أي الله تعالى كما روى عن ابن عباس ومجاهد والضحاك، وقتادة، وسفيان، ويدل عليه ما سيأتي بعد في الآية وقراءة أبي رضي الله تعالى عنه {الله} {سماكم المسلمين مِن قَبْلُ} أي من قبل نزول القرآن وذلك في الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل {وفي هذا} أي في القرآن، والجملة مستأنفة، وقيل إنها كالبدل من قوله تعالى: {هُوَ اجتباكم} ولذا لم تعطف، وعن ابن زيد والحسن أن الضمير لإبراهيم عليه السلام واستظهره أبو حيان للقرب وتسميته إياهم بذلك من قبل في قوله: {رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} [البقرة: 128] وقوله هذا سبب لتسميتهم بذلك في هذا لدخول أكثرهم في الذرية فجعل مسميًّا لهم فيه مجازًا، ويلزم عليه الجمع بين الحقيقة والمجاز وفي جوازه خلاف مشهور، وقال أبو البقاء: المعنى على هذا وفي هذا بيان تسميته إياكم بهذا الاسم حيث حكى في القرآن مقالته، وقال ابن عطية: يقدر عليه وسميتكم في هذا المسلمين، ولا يخفى ما في كل ذلك من التكلف.
واستدل بالآية من قال: إن التسمية بالمسلمين مخصوص بهذه الأمة وفيه نظر.
{لِيَكُونَ الرسول} يوم القيامة {شَهِيدًا عَلَيْكُمْ} أنه قد بلغكم، ويدل هذا القول منه تعالى على قبول شهادته عليه الصلاة والسلام لنفسه اعتمادًا على عصمته ولعل هذا من خواصه صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم وإلا فالمعصوم يطالب في الدنيا بشاهدين إذا ادعى شيئًا لنفسه كما يدل على ذلك قصة الفرس وشهادة خزيمة رضي الله تعالى عنه، وأيضًا لو كان كل معصوم تقبل شهادته لنفسه في ذلك اليوم لما احتيج إلى شهادة هذه الأمة على الأمم حين يشهد عليهم أنبياؤهم فينكرون كما ذكر ذلك كثير من المفسرين في تفسير قوله تعالى: {وَتَكُونُواْ شهداء عَلَى الناس} ورد أنه يؤتى بالأمم وأنبيائهم فيقال لأنبياءهم: هل بلغتم أممكم؟ فيقولون: نعم بلغناهم فينكرون فيؤتى بهذه الأمة فيشهدون أنهم قد بلغوا فتقول الأمم لهم: من أين عرفتم؟ فيقولون: عرفنا ذلك باخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق أو شهيدًا عليكم بإطاعة من أطاع وعصيان من عسى، ولعل علمه صلى الله عليه وسلم بذلك بتعريف الله تعالى بعلامات تظهر له في ذلك الوقت تسوغ له عليه الصلاة والسلام الشهادة، وكون أعمال أمته تعرض عليه عليه الصلاة والسلام وهو في البرزخح كل أسبوع أو أكثر أو أقل إذا صح لا يفيد العلم بأعيان ذوي الأعمال المشهود عليهم وإلا أشكل ما رواه أحمد في مسنده والشيخان عن أنس وحذيفة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليردن على ناس من أصحابي الحوض حتى إذا رأيتهم وعرفتهم اختلجوا دوني فأقول: يا رب أصيحابي أصيحابي فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك».
وربما أشكل هذا على تقدير صحة حديث العرض سواء أفاد العلم بالأعيان أم لا، وإذا التزم صحة ذلك الحديث وأنه صلى الله عليه وسلم لم يستحضر أعمال أولئك الأقوام حين عرفهم فقال ما قال وأن المراد من من إنك لا تدري الخ مجرد تعظيم أمر ما أحدثوه بعد وفاته عليه الصلاة والسلام لا نفي العلم به يبقى من مات من أمته طائعًا أو عاصيًّا في زمان حياته صلى الله عليه وسلم ولم يكن علم بحاله أصلًا كمن آمن ومات ولم يسمع صلى الله عليه وسلم به فإن عرض الأعمال في حقه لم يجيء في خبر أصلًا، والقول بعدم وجود شخص كذلك بعيد، ومن زعم أنه صلى الله عليه وسلم يعلم أمته ويعرفهم واحدًا واحدًا حيًّا وميتًا ولذا ساغت شهادته عليهم بالطاعة والمعصية يوم القيامة لم يأت بدليل، والآية لا تصلح دليلًا له إلا بهذا التفسير وهو خل البحث، على أن في حديث الإفك ما يدل على خلافه.
وزعم بعضهم أن معرفته صلى الله عليه وسلم للطائع والعاصي من أمته لما أنه يحضر سؤالهم في القبر عنه عليه الصلاة والسلام كما يؤذن بذلك ما ورد أنه يقال للمقبور: ما تقول في هذا الذي بعث إليكم؟ واسم ازشارة يستدعي مشارًا إليه محسوسًا مشاهدًا وهو كما ترى.
واختار بعض أن الشهادة بذلك على بعض الأمة وهم الذين كانوا موجودين في وقته صلى الله عليه وسلم وعلم حالهم من طاعة وعصيان.
والخطاب في {عَلَيْكُمْ} إما خاص بهم أو عام على سبيل التغليب وفيه ما فيه فتدبر، وقيل على في {عَلَيْكُمْ} بمعنى اللام كما في قوله تعالى: {وما ذُبِحَ عَلَى النصب} [المائدة: 3] فالمعنى شهيدًا لكم، والمراد بشهادته لهم تزكيته إياهم إذا شهدوا على الأمم ولا يخفى بعده، واللام متعلقة بسماكم على الوجهين في الضمير وهي للعاقبة على ماقيل، وقال الخفاجي: لا مانع من كونها للتعليل فإن تسمية الله تعالى أو إبراهيم عليه السلام لهم بالمسلمين حكم بإسلامهم وعدالتهم وهو سبب لقبول شهادة الرسول عليه الصلاة والسلام الداخل فيهم دخولًا أوليًّا وقبول شهادتهم على الأمم وفيه نوع خفاء.
{فَأَقِيمُواْ الصلاة وَءاتُواْ الزكواة} أي فتقربوا إليه تعالى لما خصكم بهذا الفضل والشرف بأنواع الطاعات، وتخصيص هذين الأمرين بالذكر لا نافتهما وفضلهما {واعتصموا بالله} أي ثقوا به تعالى في جميع أموركم {هُوَ} ناصركم ومتولى أموركم {مولاكم فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير} هو إذ لا مثل له تعالى في الولاية والنصرة فإن من تولاه لم يضع ومن نصره لم يخذل بل لا ولي ولا ناصر في الحقيقة سواه عز وجل، وفي هذا إشارة إلى أن قصارى الكمال الاعتصام بالله تعالى وتحقيق مقام العبودية وهو وراء التسمية والاحتباء، وجوز أن يكون {هُوَ مولاكم} تتميمًا للاجتباء وليس بذاك هذا. اهـ.